فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس «أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} إلى قوله: {المقسطين} إنما أنزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يريدون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يريدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، فجعل الدية سواء».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة أدى مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير قتل به، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه، فنزلت {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} والقسط. النفس بالنفس، ثم نزلت {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50].
وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال: يوم نزلت هذه الآية كان في سعة من أمره، إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم، ثم قال: {وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا} قال: نسختها {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: 49].
وأخرج عبد بن حميد والنحاس في ناسخه عن الشعبي في قوله: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال: إن شاء حكم بينهم وإن شاء لم يحكم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن إبراهيم والشعبي قالا: إذا جاؤوا إلى حاكم من حكام المسلمين، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، وإن حكم بينهم حكم بما أنزل الله.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء في الآية قال: هو مخيَّر.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في أهل الذمة يرتفعون إلى حكام المسلمين قال: يحكم بينهم بما أنزل الله.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: أهل الذمة إذ ارتفعوا إلى المسلمين حكم عليهم بحكم المسلمين.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو الشيخ والبيهقي عن إبراهيم التيمي {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} قال: بالرجم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك في قوله: {إن الله يحب المقسطين} قال: المعدلين في القول والفعل.
وأخرج عبد الرزاق عن الزهري في الآية قال: مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حد يحكم بينهم فيه، فيحكم بينهم بكتاب الله، وقد قال لرسوله {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّرًا للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ.
وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ، أيْ: هُمْ سمَّاعون.
وكذلك {أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} في «اللاَّمِ» الوجهانِ المذكورانِ في قوله: {لِلْكَذِبِ}.
و«السُّحْتُ» الحَرَامُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها، يُقالُ: سَحَتَهُ اللَّهُ، وأسْحَتَهُ: أيْ: أهْلكهُ وأذهَبَهُ.
قال الزَّجَّاجُ: أصلُهُ مِنْ: سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته، قال تعالى: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 62] أيْ: يَسْتأصلهمْ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ.
قال الله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276].
وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار.
وعن الفرَّاءِ: «السُّحْتُ»: شدَّةُ الجُوعِ، يُقال: رجلٌ مَسْحُوتُ المعدة إذا كان أكُولًا، لا يُلْفَى إلاَّ جائعًا أبدًا وهو راجعٌ إلى الهلكة.
وقد قُرِئ قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ} بالوجهين: مهن سَحَتُّهُ، وأسْحَتُّهُ.
وقال الفرزدقُ: [الطويل]
وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ** مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتًا أوْ مُجَلَّفُ

وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: {السُّحْت} بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء، والباقون بضمهما، وزيد بن علي، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ، فالضمتانِ: اسمٌ للشيء المسحُوتِ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضًا.
وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفًا مِنَ المَفتُوحِ، وهُوَ ضعيفٌ.
والمرادُ بالسُّحْتِ: الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ، ومَهْرُ البَغِيّ، وعَسِيبُ الفَحْلِ، وكَسْبُ الحجامِ، وثَمنُ الكَلْبِ، وثمنُ الخمرِ، وثمنُ المَيْتَةِ، وحُلوانُ الكَاهِنِ، والاستعجالُ في المعصية، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ، وزاد بعضهُم، ونقص بعضهم.
وقال الأخْفَش: السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ. اهـ..

.تفسير الآية رقم (43):

قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل، عطف عليه قوله معجبًا منهم موبخًا لهم: {وكيف يحكمونك} أي في شيء من الأشياء {وعندهم} أي والحال أنه عندهم {التوراة} ثم استأنف قوله: {فيها حكم الله} أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقررًا في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيمًا، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيدًا عظيمًا شديدًا، قال: {ثم يتولون} أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية، ولما كان المراد بالحكم الجنس، وكانوا يفعلون بعض أحكامها فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد، أدخل الجار لذلك فقال: {من بعد ذلك} أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعبًا.
ولما كان التقدير: فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك، عطف عليه قوله: {وما أولئك} أي البعداء من الله: {بالمؤمنين} أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك آمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله}.
هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكمًا حقًا إلى ما يعتقدونه باطلًا طلبًا للرخصة، فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه:
أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم، والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن، والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه، فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه: {وَعِندَهُمُ التوراة} حال من فاعل {يُحَكّمُونَكَ}، وقوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ الله} حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفًا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد كما قال السمين على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة مرفوعًا بالظرف المصدّر بالواو محل نظر، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجىء الحال من المبتدأ عن سيبويه.
وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها بعد التعريب معاملة الأسماء العربية الموازنة لها كموماة ودوداة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الاستفهام للتعجيب، ومحلّ العجب مضمون قوله: {ثمّ يتولّون من بعد ذلك}، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم.
فالإشارة بقوله: {من بعد ذلك} إلى الحكم المستفاد من {يُحكّمونك}، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك.
وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين، كما وصف الله حال المنافقين في قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين} [النور: 48، 49].
ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري، أي هم لا يحكّمونك حقًّا.
ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادًّا، أي لا يكون تحكيمهم صَادقًا بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه، وهو حكم الله، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم، فما هم بمحكِّمين حقيقة.
فيكون فعل {يحكّمونك} مستعملًا في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه، كقوله تعالى: {يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا} [التوبة: 64] الآية.
ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله: {من بعد ذلك} إلى مجموع ما ذكر، وهو التّحكيم، وكون التّوراة عندهم، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة.
وجملة {وما أولئك بالمؤمنين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يحكّمونك}.
ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقًا.
وضمير {فيها} عائد إلى التّوراة، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتابًا ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة.
وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى: {وأنزل التّوراة والإنجيل} في سورة آل عمران (3). اهـ.